حواسنا كنز من الحماقات


مساء بلا مُغريات , مساء اللغة بحجم هذا النزوح والتشرد , بحجم الاجتياح والانكفاء , مساء خارج من نعش السياسة ولعناتها , ومن دوامة الحنين , ومن دولة المقاصف وأحلام المُغيبين بين أحرف العشق وبين دوامة الكراهية للأوطان   .
رافعات للتودد , رائحة وصوت إبريل , نواح الثُكالى , هدير الأغنيات ............
تستفيق غارقا في لحظة شاردة , يجتاحك شعور بالأسى , وتعرف مقدار الوخزات التي تحُز في ذاتك , شُعور لا ينثني أمام الضربات التي تتلقاها وأنت مازلت واقفا أمام حضك المُتعثر , وأمام بوابة الزمن الموصدة .
تتفحص كلمة هُروب وتُقلبها في ذاتك وتجدها أقل وطأه من ما كتبه فالنتين راسبوتين في رواية رائعة حملت أسم (الهارب) , حملت ألم وبؤس الشعور بالخوف من تحمل أعباء العشق في مُجتمع مُتعطش للكُره والاغتيال , شُعور المُطارد بين نهر الفولجا بثلجه القاسي  , وبين إمكانية المُحافظة على نقاء الأفكار التي لا تختلط بحربة قيصر , إنها الرواية المفتوحة في نهاياتها مثل بداياتها , وكأنما هُنالك شيء قد حدث أو مازال يحدث ولازال إيقاعه يتكرر في الذاكرة .
بلا شُعور بالأسى , بلا أغنيات , بلا تلابيب لــــ تقود حتفك من الحياة إلى خُطى الموت المستعجلة بل والمؤكدة .
إن الاحتفال بلحظة تجربة قاسية ومريرة ومُحبطة ندباتها تتفتح من على جسدك كـــ التحذير من محرقة أو من طوفان نحن نقع على ضمن قائمة أشلاءه وضحاياه .
نحن نحب الحياة إذاُ نحن نحب الموت , ونحب جُملة المُصادفات التي تنقلنا من على تله الحصار , ونحن من نتحد ضمن قائمة تصالح وطنية تشتهي منا أن نكون أنذال كي نُفكك العلاقة بين العوائق المُصاحبة للواقع وبين أسباب التعاسة التي نعيشها .
جعلت من نفسي فرويد أُفلسف للكُل مآزق الثورات , أُصحح في لُغة الأنا لأجعلها عامية تنطبق على كُل من يحلم بالتغيير .
الأنا أن تصير جماعية , أن نتمرد على قواميس العشق النفسي التي وضعها فرويد وهيجل , أن نخرج من استبداد الفلسفة , ومن حُكم التاريخ , ومن حُدود الجُغرافيا .
سوف نعبر برزخ الصمت , سوف نُنادي بجراءة , وسوف نعوي ونرفع أصواتنا عاليا علٌ من يدرك من كُل هؤلاء أن هُنالك منهم خارج حسابات الأصدقاء , خارج أغلفة الثورات التي تموت في لحظة تصالح , علٌ من يدرك في زمن ما أن هُنالك في الأعماق حيث تنبت الأفكار والأمنيات , وأن في الجانب الآخر من قاموس ومُحيط الحياة اليومية من يرفع سقف حُلمة عاليا خارج هذا السرب المُظلل .
إن المُنحدرات مازالت عتيه , وأن النجاة من كابوس موحش لا ينتهي بمُجرد شربة ماء أو بالبحث عن حُلم أقل كثافة في دورات وعذابات الحياة , بل أن نعيش هذا الحلم من جديد وأن نتقبل مُجريات الأمور والأحداث والصفعات التي نتلقاها .
وأن التورط بالتفاصيل دائما ما نكتشف أننا كُنا بُلها معها , وأن مُجرد هُروبنا إلى محطات أخرى تأتي بشهادات مخدوشة سوى كانت بإفراغ سيرتنا الذاتية أو بكتابتها ضمن قائمة أحداث يومية .
لن أحثكم ولن أفتيكم ماذا يعني لنا الاكتئاب اليومي في الكتابة ذاتها , في العيش دون مُقدمات , دون أن نُصدق أننا نخسر عقلية البقاء وعقلية الاستقرار .
وأن مُدخرات حواسنا لم تعد سوى كنز من الحماقات والغد المُتقطع بين كتابة الرسائل وبين صياغاتها دائما ما يكون مرصاد لشهادة أحداث يومية لا تنتهي .

جلال غانم

Jalal_helali@hotmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26سبتمبر ... الثورة التي تعثرت فينا

شوارع وغربة ، امنيات وسفر

عدن المدينة التي تفتح ذراعيها للعابرين