الكـــــــــذب بمزاج عالي
لا نستطيع أن نستطرد شخصية النُبلاء في بلد يتهاوى تحت
رحمة القدر , أو أن نعيش بتمرد وقلق دائم في كُل شكلية الحياة وتوجسها والذي بات
يعصف بأرواحنا في غفلة بماخوره أحداث يومية لا تتصالح إلا مع الضجر نفسه .
الكُل يسير ضد الكُل , تصادم في الأفكار , وقوع في مأزق
وطني صعب تحليله من وجهة نظر حزبية واحدة , من وجهة لص واحد , أو مجموعة لُصوص
باتوا يتحكمون في مصادر الهواء النقي , في مصادر الحُلم الغائب والمصادر والثورة
البائسة .
الشيء الذي بات يستوعبه الكُل هو ارتفاع منسوب الكذب
بمزاج عالي من أجل الخلاص من مآزق الحُكم , من أجل التمترس والاحتماء تحت وقع
أشلاء ثورة باتت تسكن الكُل ليظهروا لنا بعد رصيد سنوات من القُبح والفساد أنهم
وطنيون وقادرون على السير بركب الثورة إلى الأمام , أنهم قادرون على اختلاق مصادر
جديدة للعيش , قادرون على لملمة كُل قطع الديناموا المتطايرة في الشوارع ورصها
بشكل مُستقيم كي تنتج لنا فوارق تاريخية جديدة قادرة على خلق مُستقبل أفضل لكل
اليمنيين .
هذا المزاج بات اليوم مكشوف , وباتت لُعبة الاحتماء هذه
قادرة فقط على خلق صراع مُستمر لإرباك أي حسابات تستطع التوغل في عُمق أي قضية
وطنية حقيقية .
فتفاصيل حياتنا لن تكون يوما ما كتفاصيل حياة الكاتب
الأمريكي (جيروم دافيد سالينجر) الذي فضل التواري خلف جدار من العُزلة
ليخرج من أضواء روايته الشهيرة (الحارس في حقل الشوفان) التي أستهوت دار الإنتاج
السينمائي الأمريكية لصناعة تاريخ مُلمع لهذا الرائع والذي فضل مُغادرة مزاج
الكتابة العالي إلى أقاصي قرية نائية بذيل رواية واحدة ليعيش عُزلته بعيدا عن
أضواء الشُهرة , وبدون رتوش أو تجميل فـــ (هولدن كولفيلد) بطل روايته والذي
يُعتبر الصورة المُطابقة لشخصية الكاتب بالإخفاقات والنجاح , بالفشل والصُعود ,
بالتعليم وبالعيش دون عالم مُزيف , دون حقيقة مُضطربة .
فــــ قناعاتنا عندما تتغلب على خطاب صارخ , ومصلحة
ضيقة , حزب مُعين , جماعة ثابتة في الخُبث نستطع آنذاك أن نتصالح مع من حولنا
لمُمارسة شكلية الحياة بكل خفة , بكل اتزان كي نقوي على قول الحقيقة دون التجرد
منها .
وهذا ما قاله يوما ما المُفكر المصري الراحل نصر حامد
أبو زيد في مُقابلة خاصة مع قناة الحُرة (( إن مُستقبل هذه الأوطان مرهون بفتح
الشبابيك , دع الهواء يدخل ودعنا نتنفس))
لندع كُل ما يحصل من بطولات خرقاء , لندع كابوس الماضي
يموت دون الاحتماء بالحاضر , دون إصابة المُستقبل بلوثة حاكم مُفتعلة , ولنبحث عن
بطولات خارجة من قُمقم الخطاب القديم , من عقلية التفكير المُميت , من ثالوث الدين
والفساد والقبيلة .
فـــ يُمكن دون ذلك استهواء قادم أفضل , كتابة رواية
خارج أضواء الشُهرة , بناء خطاب إعلامي فضفاض ,
يُمكن دُون الثالوث المُقدس , دون كُل النظريات
الارتجالية , دُون زُعماء الثورة المُفتعلون والجدد أن نتصالح , أن نبني خطاب وطني
أفضل يحتوي الجميع ويؤسس لمصداقية بمزاج عالي خارج سُطور الكذب والفراغ .
فـــ أضواء
الشُهرة التي باتت تُطارد شخصيات كبيرة كـــ محمد شكري الذي أصبح الكُل يناديه
بـــ الخُبز الحافي بعد أن قال يوما ما :
(أنا أريد قتل الشهرة التي منحتني إياها رواية
الخبز الحافي! إن الخبز الحافي لا تريد أن تموت، وهي تسحقني، أشعر أنني مثل أولئك
الكتّاب الذين سحقتهم شهرة كتاب واحد شأن سرفانتس مع دون كيخوت, أو فلوبير مع مدام
بوفاري، أو لورنس مع عشيق الليدي تشاترلي. فالخبز الحافي لا تزال حية رافضة أن
تموت، ابنة عاهرة. الأطفال في الشوارع لا ينادونني شكري، بل ينادونني الخبز الحافي) .
لنخشى على أنفسنا من عقلية الاحتماء هذه ومن أضواء
الثورة المغدورة ومن أضواء كُل زيف وكذب إعلامي بسقف ومزاج عالي كي نُفكر بشكل
مخيف على أننا أنبياء جُدد وحُماة ثورة مُقدسة .
جلال غانم
Jalal_helali@hotmail.com
تعليقات
إرسال تعليق