إب شهيــــــة الكتابة والطُموح
هُنالك
مُدن تأخذك بسحرها من أول وهلة وتهديك انطباع جيد عن جمالها الأخاذ ولا تعرف ما
يدور في شوارعها , في ساكنيها , في مُتقبلي ثقافتها , في كُرهها وحُبها للآخر .
وهُنالك
مُدن أخرى تبتلعك في أول مُصادفة عابرة لتُعبر عن اشمئزازك منها ونعتها بالأوصاف
السيئة والقبيحة.
بين كُل
مدينة وأخرى جسر مُعلق من الأمل , جسر من الود والحُلم الذي لا ينتهي , بين كُل
خاطرة وأخرى مسافات تأخذ أبعاد أكثر إنسانية وأخرى أكثر وحشية .
وهُنالك
أوطان تهديك في لحظة خاطفة موت سريري بطيء لا ينتهي بمُجرد إلقائك نظره عليه أو
مُلامستك لجروحه العميقة , وهُنالك أوطان أخرى تعرف طُرق أوسع للسعادة الضحك
والكتابات الجميلة والموسيقى الهادئة .
بين
أبعاد المُدن هذه أحيانا تعتريك المُدن التي سكنتك , منحتك تسكعك لزمن ما , التي
رأيت في أضواء شوراعها الضيقة ذاتك , وروحك المُستباحة بين حالة الجوع والعطش ,
بين هُموم دراسية تعيسة , وسكن جامعي تقبع فيه كُل الوحوش البشرية .
لا نشعر
بالانتماء للأشياء التي لا نستطع أن نحتمي بها , لا نستطع أن نتعايش معها , لا
نستطع أن نبتسم ونضحك ونعبُر برزخ الوهم والصمت والكلام .
تُدون
أحيانا في مُذكرات صغيرة عن الإسلام السياسي وعن تاريخ الأدب الروسي وشطحات
دونكيخوته النبيل والأم تريزا وبعض من وحي ((الخماسين)) في الأدب الأمريكي
المُعاصر , في كُل ذلك ترى كُل يوم أرتال متعددة من أخلاقيات الشُعوب وثقافتها ,
من نواحي ضُعفها وقوتها , تضحياتها وجنونها , كُتابها وسُراقها ولا تستطع بكثرة
هذه الوجوه أن تُميز وجهك الضائع بين شوارع صغيرة تُختصر بقذارة الناس ومُتسكعيها
, بين أصحاب مشاريع الأحزاب التي ألتهمتك وأنت القادم من إحدى القُرى النبيلة
لتُقابل صروح علمية وأنت لا تعلم كُل ذلك في ذلك يتحول إلى وحي مُخيف , فجيعتك
كمُثقف لا تكمن دائما بما تُصادفه من تصرفات الناس وتصادمها ببعض في الجامعات وفي
الأماكن العامة بقدر ما يعني ذلك بالفكر الضحل الذي يُعادوك فيه ويحولوك أحيانا
إلى تصنيف قذر يودي بك إلى العلمانية وإلى الكُفر والزندقة ومُحاربة الأفكار
السائدة .
دائما
عندما نُواجه هذه الحالات في حياتنا إما أن نضحك عن حالة مُجتمع وواقع لا يقبل
بفكرة أن تُعبر عن موقفك من كُل أو بعض الأشياء أو نبكي ونُكابد آلامنا ونمضي
لأننا لا نملك ما نقتات به ليحاربوك بمصدر طموحك وتعليمك وحتى سكنك الذي أنت فيه .
تتعدد
شهية الحياة وهويات التسكع , تتقاطع الطموحات والكتابات وتحن لكل أشيائك البسيطة
والصغيرة التي صاغت منك مُثقف يعي ما يكتب وما يقراء وما يقول .
تعي
جيدا أن دوامة قرية بتناقضاتها الصغيرة أكبر بكثير من تناقضات أُمة غائبة الوعي
والفكر المُستنير , تعي أن إمكانية قول بعض الأشياء الجميلة قد تسلب منك موقف
مُعين وحالة شخصية مُعينة , وتعي أحيانا أن الصمت رُبما يعطي نتائج أفضل بالنسبة
لك في أوقات صعبة لا تستطع أن تتحكم بكُل مجريات الحديث أو بعض
منه .
هويات
الشُعوب دائما ما تُقاس بالبعد النظري والأخلاقي لها وليس بالعرقيات التي تحملها
وهذا ما تنقصه مُجتمعاتنا حتى لو قامت فيه ألف ثورة وألف فكرة مُغلفة بأكثر من
غلاف وطوق إسلامي ضيق .
كُل ما
كنت تتمناه كـــ قروي أن ترى لك مقال في إحدى الصحف لتفُاخر به أمام زُملائك , قصة
قصيرة , قصيدة تُعبر عن تهاوي اليساري , رواية تُدون فيه كُل مشاعر العبث وكُل
أبجديات الحُزن والفرح .
ها أنت
ترى في مدينة كــــ (مدينة إب) بعد عشرات السنين من مدينة للجمال والحُب إلى مدينة
لتخصيب الأفكار القبيحة , الأفكار التي لا تنتمي إليها في أي لحظة مُمكنة .
باختصار
هي أنا وأنت وكُل الناس , مدينة تمنحك فرحك وحُزنك وكراهيتك في لحظة ما , وتختلط
فيها دُموع العاشق الطموح المُهذب الذي يعي أن دورة وزمانه مازال في الانتظار .
كي تصل
إلى نظرة كُلية لتكن مدينة لكُل الحالمين خارج أسوار الفجيعة والانتقام .
جلال
غانم
Jalal_helali@hotmail.com
تعليقات
إرسال تعليق