ثمة من يصنع بعينيك وطن
بغتة
ضبطت نفسي على قراءة ما تيسر من قصائد قاسم حداد الشاعر البحريني الرائع وقد وجدت
أن من بين لحظة وأخرى أرى شاعر خارج أحداث الزمن , خارج تكوينات الإنسان
الأيدلوجية , فثمة قراءات نشعر معها بانتمائنا الجذري لفضائاتها وثمة قراءة أخرى
نرى فيها قُبح مُجتمعانا بسُلالاتها العرقية والسياسية المُزعجة .
ففي خضم
التحالفات السياسية لإسقاط باروده حاكم بوتيرة دينية ومسبحة تنفرط بُمجرد أن نمسك
بإحدى أطرافها ثمة أوطان خارج تحالفات الذاكرة , خارج شجن كتابات السياسة , وثمة
أوطان نعي جيدا أن الانتماء إلى أحداثها وأوجاعها هوية أبدية بحد ذاتها .
ثــــــمة لُغات لا يغتالها الجهل , لا تتواطىء مع
الحُزن , لا تموت بمُجرد صعقة زناد , وثمة لُغات أخرى تزهر سنبلة وقمح وذُرة ,
وتتوالد في مواسم الربيع , في مواسم الأحلام النبيلة والبيضاء , وثمة من يقطف هذه
الأحلام بفراشات القلب , وخارج فكي الموت والحياة , خارج شتاء مُصادر في سماوات
تمطر وردا ولون وحديقة .
قُصاصات
قليلة تؤسس في ذاكرتك انطباع جيد , أسطر شعرية تشعر بانتمائك الجذري لحروفها ,
تشعر وقتها أنك وُلدت فقط لتقرءا قبل أن تُفاجاء في زمن آخر أنك وُلدت فقط لتكتب
لتعرف حينها مدى تناقضات الحياة في مضاهاة الجمال بالحب والعقيدة بالدين
والايدولوجيا بهويات الشعوب .
فهُنالك
من يصنع بعينيك وطن , أو يصنع منك مُزور هويات في مصلحة أحوال مدنية , وهُنالك من
يرى فيك مُجرد عابر في جُروح نادبه .
فـــ الهوية من تُحدد شكلية الكرامة , شكلية العيش
المُمكن من المُستحيل , وهي من تضعنا في طوابير الانتظار , انتظار تحقق الأحلام
وتحول الآمال إلى شيء مُمكن قابل للفهم والتحقق والاستيعاب .
وهذه
الهوية عندما تقرأها في جبهة شاعر بحجم قاسم حداد تشعر أن قصيدة الطوفان تجري في
مياهك الغارقة في خريطتك التي تُصارع طوفان القصيدة نفسها .
فـــ
الليل الذي يشتاقه البشر قمر يجتاحه التشريد ويضنيه البشر والقمر المخضب بالدماء
هو ليل من الضجر هذا بعض من بوح قاسم حداد الرائع في حضرة القلم والقصيدة .
إن
أحداث الربيع العربي ولدت لدينا جيل مُتصارع مع نفسه , مع الفن ومع الأدب ومع كل
ما هو جميل
فلغة
الإفرازات التي أحدثتها هذه التحولات أجهضت إمكانية تقديم خطاب إنساني وأدبي
وثقافي جيد من أجل تحويل كُل المصادر الأدبية هذه إلى مُجرد أدوات لخدمة الحُكام
الجُدد أو لمُناقضة شكلية الحاضر انتماء لماضي سُلطة لعين .
من كُل
أدوات الخوف التي تقتلنا وترمينا في لحظة عابرة أجد نفسي أنتمي إلى وطن أسمة قاسم
حداد ابن البحرين الأول كشاعر فضل الصمت على الكلام , فضل اجتراح الحرف دون بيعة في نخاسة الحُكام
ويا
ويلتاه عندما يغتالنا جوع رهيب لبشر تسير بلا رؤوس هذا ما يقوله قاسم حداد في
قصيدة (الطوفان) لنعرف في زمن آخر أن الأوطان ليست حديقة جُغرافية نعبث بمساحاتها
ونمنحها لمن نحب بقدر ما تكون هذه الأوطان هم البشر أنفسهم لنصنع بأعيننا من كُل
رائع وطن , كي نحتمي به في الأزمنة السوداء كي نُقاوم شكلية العُنف , شكلية القُبح
, شكلية الحرب بحثا عن الحب والسلام .
جلال
غانم
Jalal_helali@hotmail.com
تعليقات
إرسال تعليق